الإعلام الرسمي.. بين إعادة الهيكلة والصورة النمطية

"كاذب، كاذب، كاذب.. الإعلام السوري كاذب". كانت هذه إحدى أولى الهتافات التي صدحت بها حناجر السوريين عام 2011، والتي كانت تعبر عن الشرخ العميق بين الإعلام الرسمي والمواطن السوري على مدار سنوات.

ولم يكن هذا الشعار مجرد تعبير عن الغضب، بل كان انعكاسًا لعقود من التضليل الإعلامي والانحياز لخطاب السلطة.

اليوم، تواجه الحكومة الانتقالية تحديًا كبيرًا في الوفاء بوعودها بإعادة هيكلة الإعلام الرسمي، وتحويله إلى منصة مهنية وشفافة تعكس تطلعات السوريين بدلًا من كونها مجرد أداة بيد السلطة.

تقف الحكومة الانتقالية أمام اختبار حقيقي في تنفيذ وعودها بإصلاح الإعلام الرسمي، وجعله منصة مهنية وشفافة تعبّر عن تطلعات السوريين

بين الإصلاح والتحديات

يشهد الإعلام الرسمي السوري مرحلة جديدة من إعادة الهيكلة، في محاولة لمواكبة المتغيرات الإعلامية والتكنولوجية العالمية. لكن هذه الطموحات تصطدم بتحديات جوهرية تتعلق باستقلالية الإعلام، وآليات عمله، ودوره المستقبلي في المشهد السوري.

يرى محمود أبو راس، عضو مجلس الإدارة المؤقت لاتحاد الصحفيين السوريين، أن الانطلاقة الجديدة للإعلام الرسمي يجب أن تكون حديثة ومتطورة، وتعتمد على أحدث الأدوات التقنية لنقل المعلومات والأخبار إلى المجتمع السوري بشكل لائق. ويشدد على ضرورة إتاحة المجال للجمهور للمشاركة في صناعة الإعلام، وتمكينه من التعبير عن رأيه بحرية، بحيث لا يقتصر دور الإعلام الرسمي على تمثيل صوت السلطة، بل يكون معبرًا عن قضايا الشعب وهمومه.

ويضيف أبو راس أن تعزيز الشفافية في العمل الإعلامي يتطلب توفير المعلومات للجمهور بوضوح، وتمكين الصحفيين من الوصول إليها بسهولة، وذلك من خلال تفعيل حق النفاذ إلى المعلومة، وهو الحق الذي حُرم منه الصحفيون السوريون لعقود. كما يؤكد على ضرورة تسهيل إجراءات ترخيص وسائل الإعلام الخاصة، بحيث لا تكون جميع المنابر الإعلامية تابعة للحكومة، مع أهمية خلق شراكة بين الإعلام الحكومي والخاص لتبادل الخبرات والتجارب وتطوير الأداء الإعلامي بشكل عام.

الإعلام الرسمي والاستقلالية المفقودة

رغم الدعوات لإصلاح الإعلام الرسمي، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن أن يصبح مستقلًا أم سيظل تابعًا للسلطة كما كان طوال العقود الماضية؟

ترى الصحفية المستقلة ميس قات أن إعادة هيكلة الإعلام ليست عملية سهلة، بل تتطلب الاستفادة من الخبرات التي راكمها الصحفيون السوريون في الداخل والخارج. فقد ساهمت الكفاءات السورية في تطوير المؤسسات الإعلامية حول العالم، واحتلت مناصب مهمة، ما يجعل من استقطاب هذه الطاقات والاستفادة منها خطوة محورية في تطوير الإعلام الرسمي.

لكن رغم هذه الطموحات، لا تزال هناك تساؤلات حول مدى استقلالية الإعلام الرسمي. فكما هو الحال في معظم دول العالم، يبقى الإعلام الحكومي معبّرًا عن توجهات السلطة، مدافعًا عن مصالحها، وربما متجاهلًا قضايا جوهرية لا تتناسب مع سياساتها. حتى في الدول التي تتصدر مؤشرات حرية الصحافة، مثل هولندا، يبقى الإعلام الرسمي خاضعًا لوجهة نظر الحكومة في القضايا الكبرى، ما يثير التساؤل حول قدرة الإعلام الرسمي السوري على تجاوز دوره التقليدي.

الإعلام الحكومي: بين التبعية والاستثمار

هل يمكن للإعلام الحكومي أن يكون إعلام دولة وليس إعلام سلطة؟ هذا ما يتطلب تغييرات جذرية في آلية عمله واستقلاليته عن التوجيه السياسي.

يرى الصحفي المستقل رواد بلان أن الحكومة تحتاج إلى إعلام رسمي يعبر عنها، من خلال قنوات متعددة كالتلفزيون، والإذاعة، والصحف، والمواقع الإلكترونية، ووكالة أنباء رسمية. لكنه يشدد على أهمية أن يكون هذا الإعلام على مسافة واحدة من القوى السياسية السورية، بحيث لا يتحول إلى أداة للدعاية الأحادية.

ويضيف بلان أن استثمار الحكومة في الإعلام كقطاع ربحي يتطلب فصلًا واضحًا بين الإدارة والملكية، وعدم تدخل السلطة في إدارة المؤسسات الإعلامية. لكنه يعبر عن مخاوفه من استمرار الصورة النمطية للإعلام الرسمي، التي ارتبطت تاريخيًا بالكذب والتضليل في خدمة السلطة، مؤكدًا على ضرورة تغيير هذه الصورة وإتاحة الفرص في القطاع الإعلامي على أساس الكفاءة، وليس الولاء السياسي.

ويتفق بلان مع دعوات إلغاء وزارة الإعلام واستبدالها بهيئة إعلام مستقلة، تعمل على صون حرية الصحافة، وتسهيل تأسيس المؤسسات الإعلامية عبر إجراءات شفافة تضمن الاستقلالية والحياد. ويرى أن الإعلام الرسمي يجب أن يمثل المؤسسات وليس القائمين عليها، مشددًا على الفرق الكبير بين إعلام الدولة وإعلام السلطة.

قرار التطوير: الخطوة الأهم

أما الصحفي وضاح الخاطر، المدير السابق لإذاعة سوريانا، فيرى أن المشكلة ليست في الهيكلة، بل في اتخاذ قرار بتطوير الإعلام، مشيرًا إلى أن هذا القرار يجب أن يكون سياديًا وعاليًا، وليس مجرد تعديل إداري أو تغييرات شكلية.

ويؤكد أن استعادة الإعلام الرسمي لمصداقيته تتطلب إعادة الاعتبار للصحفي السوري، الذي تعرض للتهميش لعقود، سواء من خلال تحسين ظروف العمل، أو إتاحة المجال لنقل الواقع دون خوف من ردود فعل المسؤولين.

ويشدد الخاطر على أن سوريا تمتلك كفاءات إعلامية متميزة على مستوى الوطن العربي، لكن معظمها إما خارج البلاد، أو في الداخل دون فرص حقيقية للعمل. ويرى أن الإعلام الرسمي يجب أن يتحول إلى إعلام دولة، يعكس قضايا المواطنين، وينقل تطلعاتهم، ويواكب التقنيات الحديثة، بدلًا من أن يظل أداة لتبرير قرارات السلطة وتمجيدها.

الإعلام الرسمي السوري: إلى أين؟

في ظل هذه الطروحات، يبقى التساؤل مفتوحًا حول مستقبل الإعلام الرسمي في سوريا: هل سيشهد انطلاقة جديدة تعيد بناء الثقة بينه وبين الجمهور، أم سيظل أسير أدواره التقليدية؟ هل يمكن للإعلام الحكومي أن يكون منبرًا مستقلًا يعبر عن الشعب، أم سيظل صوتًا أحاديًا يعكس رؤية السلطة فقط؟

الإجابة عن هذه الأسئلة تتوقف على طبيعة القرارات التي ستتخذ في المرحلة المقبلة. فإذا كانت هناك إرادة حقيقية لتطوير الإعلام، فإن التغيير ممكن، لكن إذا استمرت السلطة في اعتبار الإعلام مجرد أداة ترويجية، فلن يتغير شيء، وسيبقى الإعلام الرسمي بعيدًا عن هموم الناس، غارقًا في تكرار روايات السلطة، كما كان الحال لعقود.