قول

الدولة الشبكية والانتقال السياسي في سوريا.. تفكيك مفاهيم السلطة والهشاشة

15 مايو 2025
الدولة الشبكية
تبدو السلطة الانتقالية منشغلة بإدارة الأزمة أكثر من العمل على حلها (الترا سوريا)
مالك الحافظ
مالك الحافظكاتب وباحث سوري

في قلب النقاش حول مستقبل السلطة السورية بعد سقوط نظام الأسد وصعود السلطة الانتقالية، يظهر سؤال جوهري لا يمكن تجاهله. يتعلق هذا السؤال بما إذا كانت سوريا اليوم أمام شكل جديد من الحكم يعيد تعريف الدولة بعمقها ومعناها، أو أنها ببساطة تعيش مشهدًا انتقاليًا هشًا يخفي في داخله تناقضات بنيوية أكبر من أي خطاب سياسي سائد. هنا يمكن للقارئ أن يشعر بأن مقاربة الدولة الشبكية، كما صاغها المفكر مانويل كاستلز، تفرض نفسها كأداة لفهم هذا التعقيد، لكن من الملفت أن هذه المقاربة وحدها قد لا تكون كافية لتفكيك المشهد السوري الراهن، لأن الوضع يبدو أكثر تركيبًا وتعقيدًا مما تسمح به المقاربة الشبكية وحدها.

الشبكة كقوة وفي الوقت ذاته كأزمة

بحسب تصور كاستلز، الدولة الشبكية تقوم على إعادة توزيع السلطة بين شبكة معقدة من الفاعلين المتعددين، بما يشمل الحكومة والشركات والمجموعات المسلحة والمنظمات وحتى الأفراد المؤثرين. لا تخضع هذه الشبكات للسلطة من منطق المركز أو الرأس، إنما من منطق التدفق، حيث تكمن القوة لا في السيطرة العمودية، بل في القدرة على التحكم بالعقد والروابط بين المكونات. لكن في الحالة السورية يصعب التعامل مع مفهوم الشبكة كأنه توصيف تقني فقط، إذ من الضروري تفكيكه كإطار أيديولوجي أيضًا. يمكن للقارئ أن يرى بسهولة أن السلطة الانتقالية تسعى إلى تسويق خطاب يظهرها كمديرة لتعددية وطنية قادرة على مواجهة تحديات ما بعد الحرب، لكن التحليل النقدي يكشف بوضوح أن هذه التعددية لا تقوم على تعاقد سياسي صلب، بل على تفاهمات ظرفية هشّة، تتغذى هشاشتها من غياب سردية سيادية جامعة.

بهذا المعنى نجد أنفسنا أمام بنية سلطوية لا تنبع قوتها من تعددية شرعيات، بل من تعددية مصالح. قد يبدو أن السلطة الانتقالية نجحت، ولو ظاهريًا، في استيعاب مشهد معقد من الفاعلين المحليين والإقليميين، لكنها في الواقع لا تدير حالة من الشرعية المتبادلة، إنما تدير صفقة مصالح مفتوحة، بحيث يبقى كل طرف في المعادلة حاضرًا داخل شبكة السلطة طالما ظل قادرًا على تقديم منفعة محددة أو تحقيق توازن مرحلي. هذا السياق يجعل من الضروري التساؤل عما إذا كانت هذه السلطة قادرة على تجاوز مرحلة إدارة الأزمات اليومية نحو بناء عقد سياسي فعلي.

عندما نقارن الحالة السورية بتجارب دولية أخرى، تبرز أمامنا حالات مهمة تكشف بوضوح عمق المأزق. تجربة كولومبيا بعد اتفاق السلام مع الفارك عام 2016 مثال واضح، حيث توقف النزاع المسلح رسميًا، لكن دون القدرة على تفكيك اقتصاد العنف والشبكات الموازية التي أبقت الاستقرار شكليًا والهشاشة قائمة، مما جعل السلطة موزعة بين قوى رسمية وشبه رسمية في مشهد شديد التعقيد. ومن جهة أخرى يظهر النموذج العراقي بعد عام 2003 بصورة أكثر قتامة، حيث أدى سقوط المركز إلى سباق محموم بين الشبكات الطائفية والعشائرية لإعادة تقاسم النفوذ والثروات، وهو ما جعل السلطة هناك تدير توازنات هشّة لا ترقى إلى مستوى الاستقرار الفعلي. وحتى تجربة البوسنة بعد اتفاق دايتون في عام 1995 تقدم نموذجًا موازيًا، إذ أعادت السلطة السياسية إنتاج الانقسامات الإثنية السياسية ضمن بنية رسمية وهامشية بدت وكأنها تختبر في كل لحظة معنى الدولة ومعنى قدرتها على إدارة التنوع.

استمرار الدولة الشبكية كإدارة ظرفية قد يضمن بقاء السلطة الانتقالية على المدى القصير، لكنه في العمق يرسخ هشاشة طويلة الأمد تجعل أي استقرار قائمًا اليوم قابلًا للانهيار في لحظة مفاجئة

لكن هنا يصعب تجاهل سؤال مركزي يفرض نفسه بقوة؛ هل الأزمة السورية مجرد تكرار لهذه النماذج، أم أن لها خصوصية إضافية؟ من الملفت ملاحظة أن السياق السوري، بحكم وجود خصوصية للسلطة الانتقالية كون نواتها ذات مرجعية سلفية جهادية، ما يضيف طبقة إضافية من التعقيد لا تظهر دائمًا في الأمثلة الأخرى. الأمر هنا لا يتعلق فقط بإعادة توزيع مراكز القوة بين الأطراف المختلفة، إنما يمتد أيضًا إلى إعادة صياغة القواعد ذاتها وإلى تبدل التحالفات وتكسر المعايير المتعارف عليها، بحيث يعاد كل يوم اختبار معنى الحكم ومعنى السياسة، وهذا ما يجعل من الصعب الحديث عن إطار ثابت لإدارة المرحلة الانتقالية.

مرونة ظاهرية تخفي هشاشة عميقة

قد تبدو هذه الحالة من الخارج كأنها مرونة سياسية لافتة، لكنها في العمق تكشف عن هشاشة شديدة. وفقًا لنظرية الاعتماد المتبادل المعقد، فإن زيادة ترابط الفاعلين غير الحكوميين ترافقها مخاطر متنامية من الارتباك والفشل. يمكن للقارئ أن يلاحظ بسهولة أن التشابك بين الفصائل المسلحة المحلية والجهات الإقليمية والسلطة الانتقالية، في ظل غياب إطار جامع أو عقد سياسي واضح، يرفع احتمال أن تتحول أي أزمة صغيرة إلى أزمة كبرى، حيث يصبح أي خلل يصيب توازن الموارد أو تدفق السلاح أو إعادة تشكيل التحالفات قادرًا على الانزلاق بسرعة نحو أزمة نظامية تهدد كامل بنية السلطة.

في هذا المشهد السوري المعقد، تبدو العلاقة بين القوة والفوضى وكأنها لا تنشأ عبر مؤسسات مستقرة أو قواعد سياسية واضحة، بل تتطور ضمن مساحة معقدة من التوازنات المؤقتة. يمكن التقدير هنا وكأن السلطة الانتقالية الحالية تنتج سلسلة من الترتيبات الدقيقة التي تتطلب إدارة مستمرة للحساسيات المحلية والإقليمية، بحيث يصبح مجرد الاستمرار بحد ذاته إنجازًا مرحليًا، لكنه في الوقت نفسه لا يرقى إلى مستوى المشروع السياسي أو الرؤية الاستراتيجية الشاملة.

إن ما يجعل تحليل الحالة السورية أكثر تعقيدًا هو أن المقارنة مع تجارب كولومبيا والعراق والبوسنة تكشف عن حاجة ملحة لتوظيف نظريات الانتقال السياسي ونماذج الحوكمة المتعددة المستويات من أجل تفكيك منطق السلطة الراهن. وفقًا لأدبيات الانتقال السياسي كما صاغها صامويل هنتنغتون وجييرمو أودونيل وفيليب شميتر، فإن نجاح أي انتقال سياسي يُقاس بمدى قدرة القوى الجديدة على إنتاج عقد اجتماعي ومؤسسات شرعية قادرة على إدارة الصراع ضمن إطار الدولة. لكن في الحالة السورية، يصعب على أي مراقب موضوعي أن يرى مؤشرات واضحة لهذا التأسيس، إذ تبدو السلطة الانتقالية منشغلة بإدارة الأزمة أكثر من العمل على حلها، وتعتمد في تسيير شؤونها على توافقات ظرفية لا تصل إلى مستوى الشرعية الدستورية والمؤسساتية المطلوبة.

من ناحية أخرى تقدم نظرية الحوكمة المتعددة المستويات كما طورها غاري ماركس وليندغرين هوكس تصورًا للدولة المعاصرة كنظام تتداخل فيه السلطات المحلية والمركزية والدولية. وفي الحالة السورية نلاحظ أن السلطة الانتقالية تسعى للظهور بمظهر الحكومة المركزية، في حين أن الفاعلين الفعليين يتوزعون عمليًا بين المستويات المحلية مثل الفصائل والمجالس المحلية ومجالس الشورى، وبين المستويات الإقليمية والدولية، مما يجعل من الصعب توصيف القرار السياسي السوري كقرار أحادي أو مستقل بالكامل.

كل هذا يلتقي مع مفهوم الاستقرار السلبي كما صاغه جون غالتونغ، الذي يعبر عن وضع تغيب فيه الحرب العلنية لكن يبقى العنف البنيوي مستمرًا في العمق، حيث تتمكن السلطة من ضبط السلاح دون أن تعالج جذور الأزمة. هذا الوضع يثير أسئلة شديدة الإلحاح حول كيفية تحويل الدولة الشبكية من بنية استيعاب ظرفية إلى إطار حوكمة مشترك يضمن المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية ويعيد تعريف الانتماء الوطني على أسس جديدة.

إن استمرار الدولة الشبكية كإدارة ظرفية قد يضمن بقاء السلطة الانتقالية على المدى القصير، لكنه في العمق يرسخ هشاشة طويلة الأمد تجعل أي استقرار قائمًا اليوم قابلًا للانهيار في لحظة مفاجئة. فهل تمتلك السلطة الانتقالية السورية القدرة والإرادة لإعادة إنتاج نفسها على أسس أكثر صلابة؟ أم أن منطق الشبكة سيظل كما أظهرته تجارب أخرى، مدخلًا لانفجار مؤجل يحكم المسار السوري في المرحلة القادمة؟

الكلمات المفتاحية

شواطئ سوريا

السباحة بشروط.. عن تحوّل الشواطئ إلى ساحات رقابة على الأجساد

ما يلفت في القرار هو تكرار الحديث عن "اللباس المناسب" و"السلوك الحضاري" و"الذوق العام"، دون أي توضيح لمن يضع هذه المعايير أو كيف تُفسَّر، ما يجعلها عرضة للتأويل الفضفاض


صور لمفقودين معلقة وسط ساحة المرجة بالعاصمة

بين حلم العدالة ومقتضيات السلم الأهلي

هل ستُبنى سوريا على ذاكرة واضحة تعترف بالضحايا وتُقصي الجلادين؟ أم على تسويات تمهد لمراحل جديدة من التوتر والانقسام؟


أطفال بين منازل مدمرة يوم عيد الأضحى

الذات السورية الجديدة.. من الانكشاف إلى التكوين

لم يعد المكان في التجربة السورية سياقًا ثابتًا للعيش، فقد بات جسدًا مشتركًا للتصدع والحنين والارتياب


خريطة الشرق الأوسط

الشرق الأوسط الجديد بين الحقيقة والخرافة

عاد الحديث مجددًا عن إقامة شرق أوسط جديد في ضوء التغيرات والتطورات المتلاحقة التي حدثت في الآونة الأخيرة

ترامب روبيو
أخبار

من بينها سوريا.. مذكرة أميركية تمهّد لتوسيع حظر السفر

تعتزم الولايات المتحدة توسيع نطاق قيود السفر لتشمل مواطني 36 دولة إضافية، من بينها سوريا ومصر ودول آسيوية وإفريقية وكاريبية

الدمار في الشمال السوري
مجتمع واقتصاد

من الأنقاض إلى الأمل.. مشروع إعادة تدوير الركام في الشمال السوري

في شمال سوريا، حيث خلّفت الحرب دمارًا هائلًا في البنية التحتية والمجتمعات، انطلق مشروع مبتكر لإعادة تدوير الركام،


وزارة الشباب والرياضة
منوعات

احتفالية رسمية لتكريم الرياضيين السوريين بعد إنجازات دولية لافتة

كرّمت وزارة الرياضة والشباب 24 بطلًا سوريًا حققوا إنجازات دولية منذ مطلع العام

حصاد القمح في الرقة
أخبار

البحوث الزراعية: 24 صنفًا جديدًا من القمح في سوريا وسلالات مقاومة للجفاف والملوحة

تواصل الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية جهودها لتعزيز إنتاج القمح واستنباط أصناف تتحمل الظروف المناخية الصعبة

الأكثر قراءة

1
أخبار

15 قتيلاً في 13 عملية اغتيال خلال أسبوعين في درعا


2
منوعات

سيدات ورجال الوحدة إلى النهائي.. ومواجهتان فاصلتان لأهلي حلب في دوري السلة


3
أخبار

اعتقالات ومصادرة أسلحة خلال حملة أمنية ضد فلول النظام السابق والمهربين في دير الزور


4
أخبار

الليرة تتراجع أمام الدولار والذهب يهبط بشكل طفيف


5
أخبار

الهيئة العامة للمنافذ: تسهيلات جديدة لعودة السوريين من لبنان عبر المعابر الرسمية


advert