تكريزة رمضان في دمشق: بين التقاليد الشعبية والتوثيق الأدبي

لطالما كانت العادات والتقاليد جزءًا لا يتجزأ من هوية المجتمعات، حيث تعكس طبيعة الحياة اليومية وارتباط الأفراد بموروثهم الثقافي. وفي دمشق، تأخذ المناسبات الدينية طابعًا مميزًا يتجلى في طقوس اجتماعية فريدة، من بينها "تكريزة رمضان"، التي تمثل احتفالًا شعبيًا وطقسًا جماعيًا يُقام قبل بداية شهر الصيام. في هذا المقال، نستعرض مفهوم التكريزة، أصولها التاريخية، وكيفية توثيقها في الكتب الأدبية والتراثية، إلى جانب التغيرات التي طرأت عليها في العصر الحديث.

مفهوم "تكريزة رمضان" وأصولها التاريخية

يحدثنا الباحث في التراث الدمشقي، هيثم طباخة، عن عادة كزورة رمضان أو تكريزة رمضان، التي تعد من العادات الاجتماعية العريقة في دمشق، حيث كانت تُقام قبل حلول شهر الصيام بعدة أيام.

بحسب هيثم طباخة، فإن كلمة "تكريزة" أو "كزورة" تُستخدم في اللهجة الدمشقية للدلالة على النزهة الجماعية التي تسبق رمضان. ويشير إلى أن لها اسمًا آخر كان يُستخدم قديمًا، وهو "التكريجة"، التي ترتبط بتعبير شعبي يعني التحرك الجماعي إلى مكان معين، حيث كان الكبار يقولون للأطفال: "كرجوا يا أولاد قدامي كرجوا".

"التكريزة" تقليد اجتماعي ارتبط بالمجتمع الدمشقي منذ قرون، وهو عبارة عن نزهة جماعية تُنظم عادةً في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، حيث تتوجه العائلات إلى المساحات الخضراء في ضواحي دمشق، مثل الغوطة، والربوة، والمليحة، لقضاء يوم ترفيهي قبل دخول شهر رمضان المبارك. تعكس هذه العادة روح الجماعة والفرح، وتعد وداعًا للأيام العادية واستقبالًا لأجواء الصيام والعبادة.

التكريزة كنزهة شعبية

يوضح طباخة أن التكريزة لم تكن مجرد نزهة عادية، بل كانت نوعًا من السيران الدمشقي الذي يتم في الطبيعة مباشرة على الأرض، وليس في أماكن مجهزة بطاولات وكراسٍ. كانت العائلات تحضر مستلزمات التكريزة، والتي تشمل السلة، والسحارة، والطناجر النحاسية، والببور، وإبريق الشاي، ثم تجلس بجانب المياه الجارية، وتبدأ في إعداد الطعام والشاي وسط أجواء عائلية مليئة بالألفة والتعاون.

إحدى السمات الفريدة للتكريزة، كما يذكر طباخة، هي أنها كانت تخلق فرصًا للتعارف بين العائلات، وعادةً ما كانت تقام في أماكن طبيعية مثل بساتين الغوطة والربوة وحديقة تشرين

التكريزة في الكتب والمصادر الأدبية

تم توثيق تكريزة رمضان في العديد من الكتب التي تناولت العادات الدمشقية، ومن أبرزها كتاب "يا شام" للمؤرخ منير كيال، الذي أشار إلى أن الدمشقيين دأبوا على الاحتفال بهذه العادة من خلال رحلات عائلية جماعية إلى الطبيعة، حيث يجتمعون حول موائد عامرة بالأطعمة والمشروبات التقليدية. كما ذكر الباحث هيثم طباخة، عضو البيت الدمشقي للتراث، أن التكريزة كانت بمثابة فرصة للعائلات للاستمتاع بآخر أيام الإفطار بحرية قبل دخول شهر الصيام.

التكريزة والتواصل الاجتماعي

إحدى السمات الفريدة للتكريزة، كما يذكر طباخة، هي أنها كانت تخلق فرصًا للتعارف بين العائلات، حيث كان من المعتاد أن يتبادل الجيران الأدوات والطعام، مثل استعارة نكاشة الببور، السكر، أو بعض الخبز. هذا التواصل أدى في بعض الأحيان إلى نشوء علاقات اجتماعية جديدة، وحتى حالات خطوبة وزواج.

العادات والتقاليد المرتبطة بالتكريزة

تقام التكريزة في أماكن طبيعية مثل بساتين الغوطة والربوة وحديقة تشرين، حيث يجتمع الأهل والأصدقاء في أجواء احتفالية تتضمن الغناء الشعبي وسرد الحكايات التراثية. أما من الناحية الغذائية، فتتضمن موائد التكريزة أطعمة تقليدية مثل:

• المجدرة: طبق شعبي يعتمد على العدس والبرغل أو الأرز.

• المشاوي: الكباب، الدجاج المشوي، واللحوم المحضرة بطرق دمشقية أصيلة.

• مقلة الفول: طبق ربيعي دمشقي تقليدي.

• حراق إصبعه: أحد الأطباق المشهورة التي تعتمد على العدس والعجين ودبس الرمان.

كما تشهد هذه التجمعات أنشطة ترفيهية، حيث يلهو الأطفال ويشارك الكبار في جلسات السمر والطرب، ما يجعلها مناسبة تجمع بين الترفيه والاحتفاء بالهوية الثقافية.

التكريزة في الأدب الشعبي والذاكرة الجماعية

لم تكن التكريزة مجرد عادة اجتماعية، بل أصبحت جزءًا من الذاكرة الجماعية للدمشقيين، وظهرت في الأدب الشعبي من خلال الروايات والحكايات التي توثق تفاصيلها. فغالبًا ما كانت العائلات تستغل هذه الفرصة لتعريف الأطفال بأجواء رمضان، حيث كان الصغار يفرحون بالمشاركة في التكريزة قبل أن يعيشوا أولى تجاربهم في الصيام. في بعض الروايات الدمشقية، كانت هذه النزهات توصف بأنها آخر فرصة للأطفال للاستمتاع باللعب واللهو قبل أن يتحول الشهر إلى فترة تكثر فيها العبادات والالتزامات الدينية.

التغيرات الحديثة في ممارسة التكريزة

مع تغير أنماط الحياة في دمشق، تأثرت بعض العادات الشعبية، ومنها تكريزة رمضان. في الماضي، كانت التكريزة عادة شائعة تمارسها معظم العائلات الدمشقية، لكن مع التوسع العمراني وازدحام المدينة، باتت هذه العادة أقل انتشارًا، واقتصرت على بعض العائلات التي تحاول إحياء التراث بأساليب حديثة.

يشير هيثم طباخة إلى أن هذه العادة بدأت تتلاشى مع الزمن، بسبب التغيرات العمرانية والاجتماعية، إلا أن بعض العائلات الدمشقية لا تزال تحاول إحياءها من خلال نزهات بسيطة إلى أماكن مثل الربوة وحديقة تشرين، للحفاظ على هذا التقليد الذي كان جزءًا من هوية المجتمع الدمشقي. كما أن بعض الجمعيات الثقافية بدأت بتنظيم "تكريزات" رمزية بهدف إحياء هذه العادة وتعريف الجيل الجديد بها.

تمثل تكريزة رمضان واحدة من العادات الدمشقية العريقة التي تعكس روح المجتمع وتماسكه. فهي ليست مجرد احتفال أو نزهة، بل طقس اجتماعي يربط الأجيال ببعضها البعض، ويعيد إحياء الذكريات الجماعية التي تجعل من دمشق مدينة حافلة بالتاريخ والتراث. ومع أن هذه العادة قد تراجعت في العصر الحديث، إلا أن قيمتها الثقافية تظل محفوظة في وجدان الدمشقيين، مما يجعلها إرثًا يستحق التوثيق والاهتمام.