الدراما التاريخية.. حسابات اليوم في مواجهة وقائع الماضي

في حوار إذاعي قديم، قال الفنان المصري الراحل حمدي غيث إن للمسرح أفضلية على باقي أنواع الدراما، وهو أبو الفنون لأسباب كثيرة بينها أنه الأكثر إثارة للخيال والأسخى في منح المتلقي فسحة للتفاعل والإضافة. وعندما يخرج ممثل على خشبة المسرح ليقول: "قصر مسحور" فإنه يطلق صورا وخيالات، يصنع قصورا بعدد المتفرجين الحاضرين، ولكن عندما يأتي فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني ليجسد هذا القصر أمام أعين المشاهدين ويعطيه أبعادا وتفاصيل واقعية، فإنه يغامر بإحباط الجمهور وإصابته بخيبة أمل.

ربما تقدم هذه النظرة الخبيرة تفسيرًا معقولًا لخيبة الأمل التي غالبًا ما تصيب جمهور الدراما التلفزيونية التاريخية، فإزاء كل مسلسل يأخذ على عاتقه تقديم شخصية أو حقبة أو موقعة، في التاريخ العربي القديم أو الحديث، يعلو الاحتجاج بصيحة موحدة: "ليس هذا هو فلان" أو "لا يمكن لهذه الواقعة أن تكون قد حدثت على هذا النحو". 

جزء من سوء الاستقبال هو أفق التوقع لدى الجمهور، والذي يكون غالبًا أوسع بكثير من قدرة الدراما التلفزيونية على مجاراته، خاصة وأن التاريخ يمثل لغالبيتنا مخزنًا كبيرًا للقصص المشرقة والإنجازات شبه الخارقة ولنماذج النجاح التي لا يخالطها شك أو نقد.

ومن هذا المخزن نستعير على الدوام ما يسند كبرياءنا وإحساسنا بالكرامة ويجعلنا نقوى على مواجهة عالم حاضر، لا نملك الآن ما يجعلنا قادرين على التعاطي معه بكفاءة.

وهكذا يتحول التاريخ إلى ميدان كبرياء قومي، وشخصياته لا تعود شخوصًا بشرية كانت من لحم ودم مثلنا، بل تغدو رموزًا، أيقونات. فأي ممثل يقوى على لعب دور أيقونة دون أن يخدشها في أعين الجمهور؟ أي دراما تلفزيونية تلك التي تستطيع تجسيد معركة عين جالوت التي في أذهاننا؟.
من هنا، فإن أي مسلسل تاريخي يغامر، من حيث المبدأ، بتحدي مسبقات الجمهور الراسخة، واضعًا نفسه في اختبار صعب، قليلة هي المسلسلات التي تنجح فيه.

وصناع الأعمال التاريخية يعرفون ذلك جيدًا، يقدرون حساسية جمهورهم المشدودة، وبالتالي فهم يتوزعون إزاء ذلك على موقفين: 
قلة تصر على صناعة أعمال لا تهتم إلا بالشروط الفنية، وبتبني رؤية للتاريخ لا تخلو من نقد ومراجعة، أو على الأقل: معالجة مركبة ترى في التاريخ ظاهرة بشرية وفي أبطاله شخوصا لا يمكن لهم، مهما حفلت سجلاتهم بالأمجاد، أن يخرجوا عن شرطهم الإنساني.

 وبالمقابل هناك كثيرون يختارون الأمان والسلامة، والنجاح الجماهيري كذلك، عبر تملق التاريخ والجمهور معًا، فيقدمون سيرًا وحكايات ناصعة، بيضاء تمامًا بلا لطخة سواد، لأبطال ملائكيين معصومين من الخطأ، ولا يعرفون التردد ولا يداخلهم الشك والحيرة في أي سلوك وإزاء أي قضية. 

غير أن آخرين يجترحون خيارًا ثالثًا: يقدمون رؤية جديدة للحقبة التاريخية المعروضة، في الصورة والألوان والأزياء وطرائق الخطاب وسلوك البشر، (ولا سيما النساء)، دون الإقدام على اقتراح رؤية جديدة موازية عل مستوى المضمون وتفسير الوقائع ونقد الروايات الراسخة عنها. والنتيجة غالبا ما تكون فشلًا على الصعيدين وعند الجمهورين. على صعيد المضمون: إذ يأتي العمل تقليديًا لا جديد فيه، ويكون أشبه بدرس تاريخ بليد في كتاب مدرسي. وعلى صعيد الشكل: نقف أمام واحد من أعمال الفنتازيا التاريخية، تلك الصرعة التي ابتليت بها الدراما السورية ولم تحصد من جرائها سوى السخرية.

والجمهور "التقليدي"، الذي يرغب في أن تطابق الدراما تصوراته وآرائه المسبقة ونظرته الحرفية الصماء المستمدة من كتب التاريخ الرسمية، لن يخرج راضيًا بعد أن صدمته أزياء وكلمات وسلوكيات يعتقد أنها لا تنتمي إلى عالم فردوسه المفقود. وبالمقابل فالجمهور الراغب في معالجة جديدة ومركبة، سيكون ساخطا أيضًا إذ لا تنطلي عليه لمسة الفنتازيا الشكلية ولا يأخذها على محمل الجد.

ربما من المبكر الحكم على مسلسل معاوية، فحلقاته لم تصل إلى نهايتها بعد، ولكن ما عُرض منه يشير إلى أنه ينتمي إلى الصنف ـ الخيار الثالث، حيث محاولة التجديد الشكلية في تناول الشخصية وحقبتها، في الملابس وطريقة الكلام ونمط العلاقات الأسرية، إذ يسجل المسلسل خروجًا عن مألوف أفكارنا وتخيلاتنا عن كل ذلك، وبالمقابل تحضر زاوية المعالجة التقليدية لبنية الشخصية وللوقائع التي صنعتها وعايشتها. وهكذا فالمسلسل لم يحصد حتى الآن سوى القليل من الإعجاب والكثير من الاستياء والاستهجان.

نقطة أخرى تسبب الكثير من سوء التفاهم في شأن الدراما التلفزيونية التاريخية. إذ يفهم البعض الرؤية الجديدة والمعالجة المختلفة على نحو محدد وبسيط، وهو قلب الروايات التاريخية رأسًا على عقب، وتسويد الصفحات البيضاء بالكامل، وشيطنة الشخصيات "الملائكية".

وقد طالعنا في الفترة الماضية، قبل سقوط النظام، عدد من الفنانين الذين دعوا إلى مثل هذا التناول، وعلى يدي واحد من هؤلاء صار صلاح الدين، مثلا، مهزومًا وجبانًا، ومعركة حطين مجرد تمثيلية، والقائد التاريخي لم يفعل سوى إضاعة القدس بعد ان سلمها للأعداء.
لا يحتاج أحدنا إلى كثير عناء ليستنتج أن هذه النظرة هي الوجه الآخر للعملة نفسها: اختزال التاريخ في كليشات أيديولوجية تنهل مفرداها من حسابات اليوم لا من سياق الماضي.

ومن هنا فليس المطلوب من مسلسل "معاوية" أن يسلب الرجل الكبير إنجازاته الهائلة، بل ببساطة أن يقدم لها رواية منقحة أكثر واقعية، تفسر النجاح بعوامل بشرية وفي سياق إنساني، بعيدًا عن المقولات الميتافيزيقية التي تظلم الرجل، في العمق، بدلًا من أن تنصفه.