ثقافة وفنون

مسرحية "تغريبة الشتاء الطويل".. حصار مضايا ومعنى الوجود الإنساني

28 فبراير 2025
photo_5911157159159252991_y.jpg
من العرض (الترا سوريا)
بديع صنيج
بديع صنيجصحفي سوري مهتم بالشأن الثقافي والاجتماعي

ظنَّ طلاب السنة الرابعة في المعهد العالي للفنون المسرحية أنهم يعيشون تغريبتهم في ظل غياب وزارة الثقافة عن حكومة تصريف الأعمال، وعدم إمكانية صرف أي ميزانية لمشروع تخرجهم النصفي، لكن ما حصل أنهم جسَّدوا حكاية "تغريبة الشتاء الطويل" التي كتبوا فصولها بأنفسهم تحت إشراف الأستاذ كفاح الخوص، وذلك على خشبة مسرح فواز الساجر (الدائري)، متكئين على الارتجال والعصف الذهني الذي قادهم إلى حصار الجوع في مضايا بين عامي 2015 و2017، باعتباره أحد أسوأ الأزمات الإنسانية التي خلفتها سياسات النظام البائد في محاصرة المدنيين المعارضين له، وكيف جابه أهل تلك البلدة في ريف دمشق البراميل المتفجرة والتهجير والاستغلال وشظف العيش بإصرار على الحياة، ورغبة عارمة في تجاوز المحن والأهوال.

مغارة في جوف جبل باتت مأوى لثمانية عشر إنسانًا، يُطلّون منها على بيوتهم ومدارس أطفالهم التي يقصفها النظام محيلًا إياها إلى ركام، ومع ذلك فإنها مكان مثالي للاحتماء، وخيار سينوغرافي موفق يحيل إلى نوع خاص من العزلة واعتكاف الحياة العادية، ولأنه كان اضطراريًا فإنه اكتسب أبعادًا درامية أعمق، من ناحية الارتهان لظروف العيش القاسية التي تفرض نفسها على الشخصيات وسلوكياتهم، لاسيما في ظل ندرة الطعام والبرد القارس والقوانين الاجتماعية الناشئة بحكم الضرورة والموت.

 مغارة في جوف جبل باتت مأوى لثمانية عشر إنسانًا، يُطلّون منها على بيوتهم ومدارس أطفالهم التي يقصفها النظام محيلًا إياها إلى ركام

وفي مقابل تلك القسوة ثمة روح إنسانية عذبة وطرافة معجونة بطبيعة أبناء تلك البلدة كانت توازن المعادلة، بحيث لا يصبح الموضوع كله مأساويًا خالصًا، وإنما هناك دائمًا ما يُعدِّل المزاج العام، مفسحًا المجال لضحكة صادقة من قلب الوجع، والأهم أنها ليست مقحمة على السياق، بل تأتي منسجمة مع الظرف ونابعة من صميمه، خاصةً إذا أكَّدنا على اعتبار التمثيل حاجة بدائية دفعت الإنسان إلى خلق التوازن مع الطبيعة، وفقًا لممارساته العملية، وحاجاته الروحية، لذا جاء أداء طلاب السنة الرابعة متماهيًا مع شخصياتهم، على اختلاف طبائعها وتكوينها النفسي والاجتماعي والثقافي، وأكثر ما يجمعهم هو الطبيعية الآسرة التي أقنعتنا بحقيقيتهم وانتمائهم إلى تلك البيئة المفروضة عليهم بكامل أوجاعها وحميميتها، وكأنهم وُلدوا من جديد من رحم تلك المغارة بثيابهم المُعفَّرة وأرواحهم المتعبة ومصائرهم المعلقة.

شخصيات متنوعة تجاهر بقلقها في صيغة المضارع المستمر، فرغم الحب الذي يبديه حسان (أحمد الشعيب) لزوجته حياة (مي حاطوم) الحامل بابنه الأول، إلا أن ضغط الواقع المزري يدفعه لإقناع المعلم خليل (خالد شامية) بأن يستغل الحاجة المُرَّة لبقية الأفراد المأزومين المجتَمِعين معهم، من أجل الكسب السريع وتحقيق المرابح مهما ابتعدت عن سياقها الإنساني. هذا الأمر كان أقرب إلى رأسمالية متوحشة ناشئة تنهش بيوت الفقراء المهجرين وحاجتهم إلى الطعام في مقابل أموال تتكدس على حساب النبل البشري المفترض، وهكذا يصبح حسان شبِّيحًا يعيش على حساب إخوته وأبناء بلدته، من خلال التعفيش وتحقيق صفقات شراء البيوت المهدمة بأثمان متدنية.

يوافقه التاجر خليل ويساعده في ذلك معطيًا إياه أول دفعة مالية تخدمه لتحقيق ذاك المُخطط، خليل الذي فقد إحدى ساقيه بقذيفة في الحرب، بات يعتبر أن مكاسبه السريعة تلك بمثابة تعويض عن خسارته الجسدية، فضلًا عن أنها تحقق له إذلالًا لذويه يُرضي نرجسيته، رغم شهامته الكاذبة التي يبديها مثلًا تجاه الطفل سامح (أحمد الرفاعي) الراغب بأي شيء يسد جوعه، لكن أَنَفة أبيه ربيع (حسين مختار) تقف حائلًا ضد تحقيق مآرب خليل، وهنا يتضح الصراع بين الحاجة الجسدية والحاجة الروحية، وهو ما يحصل بين حسان وزوجته التي عرضت عليه مصاغًا أهدته إياها أمها من أجل أن يفك ضيقته المادية، لكنه يأبى ذلك، لأنه يخطط لما يمكن تسميته "الاستثمار بالجوع" فهو لا يريد أرباحًا آنية، لاسيما بعد الانتقادات المستمرة له من قبل محيطه على أنه طبيب بيطري لا تنفعه شهادته مع جروحات البشر، ونظرتهم إليه باستخفاف لا يخلو من السخرية.

وبما أن الدراما تتشكل عبر إرادات الأفعال المتعارضة، فإن خليل المتزوج من ابنة عمه يسرى (لجين دمج) يُعيُّرها باستمرار بأنها لم تنجب له، لذا في إحدى نوبات الغضب جاهرت بأنه هو سبب الخلل ما دفعه إلى تطليقها، وكنوع من رد الفعل فإنه يتزوج من بارعة (سارة مرشد) كزوجة ثانية مجربة إذ إن لديها ابن من رجل غيره هو غزوان (ليث الشيخ)، ورغم صراع الضراير، إلا أن خيط الإنسانية الرفيع ظلَّ ممتدًا بين الامرأتين، لا سيما بعد استشهاد غزوان، ورفض والدته تصديق موته، ما أصابها بالجنون والهذيانات المتكررة.

وضمن العملية الإبداعية التي أتقنها الطلاب بإشراف الخوص بتنا نتابع زمنًا فنيًا مركبًا يتداخل فيه ما هو واقعي بما هو افتراضي ضمن حدود الابتكار والاكتشاف للشخصية الدرامية، وهو ما حصل مع مروان (عمران نصر) العاشق الولهان لحبيبةٍ تركته وسافرت، ولا يعرف الفكاك من طيفها الذي يراوده دائمًا، حتى بعدما أخبرته بأنها تزوجت وباتت حاملًا في الغربة، إذ يواصل استحضارها في الحلم والواقع حتى أنه قرر الانتحار للتحرر من ذكراها، لنكتشف بعد ذلك أن كوابيسه المستمرة ليس مصدرها الحب والهجران فقط، بل لأنه كان سجينًا في سجون النظام ويحمل الرقم 60 وتعرض للشَّبح والعديد من الانتهاكات الجسدية برفقة زميلة مازن (معد المقداد)، بحيث أن جروحهما الروحية لم تُشفَ بعد.

وبالمثل فإن الدكتورة سماح (كندة خليل)، ابنة ربيع وعزيزة، كانت بيديها المرتجفتين والدم الذي لم يجف عنهما، تساعد الجرحى حسب استطاعتها، وهي من أوصت بقطع ساق خليل بعد إصابته كي تحافظ على حياته، في حين أنها ما عادت قادرة على مداواة أوجاعها الشخصية، إذ إنها تعرضت للاغتصاب في المعتقل، وهي الآن حامل من مغتصبها، ورغم صدِّها لحبيبها فاروق (أنس حمودي) كي لا تُشْركه في عارها، إلا أن شهامته وهو المنتمي إلى الجيش الحر دفعته لأن يطلب يدها من خالها عدنان (عبد الله عفيف) أحد قادة ذاك الجيش، الذي ما إن علم بموضوع حملها حتى همَّ بقتله ظانًا أنه هو الفاعل، لكن سماح تدافع عن فاروق بشراسة وتُفهم خالها الحقيقة، فيقوم هو بإخبار أبيها وأمها عزيزة (صبا زهر الدين)، اللذين من هول صدمتهما اسودَّت الدنيا بوجهيهما، حتى أن والدها ربيع بات من حينها سارحًا ولم ينطق بعدها بحرف.

ورغم محاولات تلطيف الفاجعة بنوع من حكمة كبار السن وطرافتهم التي أسس لها في المسرحية كل من نبيلة (نيكول عبيد) أخت خليل، وزوجها درويش (سيمون فرح)، وأبو فاروق (غابي عمسو) إلا أن مخالب الحقيقة كانت أكثر فاعلية، إذ تتصاعد الوتيرة الدرامية مع اكتشاف أن خليل كتب تقريرًا بحق سماح أودى بها إلى المعتقل، كما أنه دسَّ بالمخدرات في سيارة عدنان فأدخله السجن، لينفرد بحبيبته يسرى ويتزوجها كنوع من الستر عليها بعد غياب عدنان الطويل، وفوق ذلك فإنه قتل عمَّه والد يسرى من أجل صراع على قطعة أرض.

في خضم هذه الأحداث يتكاتف فاروق وعدنان للإيقاع بحسان الذي هرب تاركًا زوجته الحامل، ويحققا ذلك، لكنهما يفشلا في الوصول إلى خليل الذي بات يمتلك نصف البلدة، وزيادةً في وساخته، فإنه يدل جيش الأسد على موقع البيت الذي يقطنه عدنان فيستهدفونه بصاروخ يودي بحياته شهيدًا، لنسمع في نهاية المسرحية مروان

وهو يصرخ بملء صوته، في مواجهة أصوات الانفجارات والصواريخ، "بيكفي.. بيكفييييييي" كدعوة لنهاية الحصار والحرب.

دراما واقعية محكمة آثرت التغلغل في معنى الوجود الإنساني في الأزمنة الصعبة، أثبت من خلالها طلاب التمثيل أنهم قادرون على تخطي مأزق معهدهم الوجودي بكفاءة عالية، وزاد من جماليات ما قدموه موسيقى آري جان سرحان وظافر يوسف بأداء عازف البزق جاد اسعيد، وإضاءة حمزة أيوب، وأزياء وماكياج خولة ونوس، إذ صنعوا مع ديكور محمد كامل فضاءً مساندًا لطبيعة كل مشهد، استطاع تعزيز طاقة الممثلين وزيادة شاعرية أدائهم العالي.

وفي حديث لـ "ألترا سوريا" قال المشرف على العرض كفاح الخوص: "بحثنا كثيرًا عن نص نستطيع من خلاله أن نجمع 16 طالبًا وطالبة فلم نجد، لذلك قررنا أن يكون العرض ارتجاليًا، وخلال أسبوعين من العصف الذهني تمكّنا أن نخرج بهذه الفكرة، التي كُتِب نصُّها كتابة ركحية، بحيث أن كل طالب كتب شخصيته، بينما توليت أنا الإعداد والإشراف".

وأضاف: "واجهنا صعوبات كثيرة، فوزارة المالية أغلقت حساب وزارة الثقافة، لذلك لم يكن هناك ميزانية مخصصة للعرض، لا للماكياج ولا للملابس ولا للديكور، وأحبط الطلاب جميعًا، لأن الأمور كان متروكة للهباء، لكننا تواصلنا مع الأستاذ الليث حجو وساعدنا وقدم لنا الميزانية، وهو ما جعلني في العرض الأول الذي تم بهذه الصورة المبهجة أشعر وكأنني رزقت بطفل بعد مخاض طويل".

وعن خيار الواقعية أوضح الخوص: "اعتمدنا أن الشخصية لا تظهر عواطفها، وهذا ساعدنا في أن يكون الأداء واقعيًا جدًا، بعيدًا عن الجنائزية، وكثفنا لحظات الذروات الدرامية بحيث لا تكون فجّة، وفي الوقت ذاته هناك طرافة مأخوذة من بيئة أهل مضايا التي أنتمي إليها وروحهم الجميلة".

الكلمات المفتاحية

الفنان سلامة

وضاح سلامة: خائفٌ على مستقبل النحت في سوريا

يُفضّل وضاح سلامة اعتماد كلمة "البحث" في توصيف علاقته مع النحت، ذلك أن ثلاثين عامًا من الاشتغال على المعدن والحجر والخشب، وغيرها من الخامات، سمحت له بالكثير من التجارب والمحاولات


فيصل بني المرجة

فيصل بني المرجة: يمكن للفن أن يكون أداة للتغيير

بين سوريا حيث الجذور، والمهجر والغربة والصقل، راكم المخرج فيصل بني المرجة تجربة إخراجية وإنسانية لافتة


أمسية قصصية

نساء يسردن قصصًا عن الحرب.. نكتب كي لا تموت الحقيقة

كانت الأمسية القصصية التي نظمتها مؤخرًا "جمعية عاصمة السلام" في حمص، تتويجًا لورشة "كتابة القصة الشخصية"، بإشراف الحكواتي والممثل المسرحي بسام داوود، وذلك في دير الآباء اليسوعيين في حمص


جهاد عبده

علاقة مضطربة.. ماذا ينتظر السينمائيون السوريون من مؤسستهم؟

السؤال الجوهري اليوم ماذا ينتظر السينمائيون السوريون من مؤسستهم؟ وهل ما تزال الأخيرة قادرة على مواكبة التغييرات ضمن إصلاحات معينة أم يجب إعادة بنائها بطريقة أخرى تساهم في دعم السينما السورية؟

سيارات مستعملة
أخبار

وزارة النقل توضح أسباب وقف استيراد السيارات المستعملة

كشفت وزارة النقل السورية عن الأسباب التي دفعتها إلى اتخاذ قرارها الأخير، الذي يقضي بإيقاف استيراد السيارات المستعملة

بريكس 2025
أخبار

مجموعة "بريكس" تدين احتلال إسرائيل أراضٍ جديدة في سوريا وتدعم وحدتها

أدانت الدول الأعضاء في مجموعة "بريكس" احتلال إسرائيل لأجزاء جديدة من الأراضي السورية، داعية إياها إلى الانسحاب منها بشكل فوري


أهلي حلب الوحدة
منوعات

بعد تحقيقهما العلامة الكاملة.. انطلاقة قوية للكرامة وأهلي حلب في "بلاي أوف" الدوري الممتاز

أسفرت نتائج الجولة الأولى عن تحديد ملامح الصراع على اللقب بعد أن حقق الكرامة وأهلي حلب العلامة الكاملة

مكتبة
أخبار

استخراج مكتبة مدفونة منذ 10 سنوات في دير الزور لحمايتها من نظام الأسد

تداول نشطاء على منصات التواصل مقطعًا مصورًا يُظهر لحظة استخراج نحو ألفي كتاب كانت مخبأة تحت الأرض في قرية التبني بريف دير الزور

الأكثر قراءة

1
مجتمع واقتصاد

مشكلة الآثار في الحسكة.. تدمير الهوية الحضارية وسط ويلات الحرب


2
سياسة

من مرجعية دينية إلى لاعب سياسي.. ماذا نعرف عن الشيخ حكمت الهجري؟


3
قول

الهوية البصرية الجديدة: أين البصمة السورية؟


4
قول

ما الذي ينتظر السويداء بعد الدخول العسكري؟


5
أخبار

طقس سوريا: كتلة هوائية معتدلة وأجواء حارة ومغبرة شرقًا


advert